للمرّة الأولى منذ زمن طويل، يتحرّك السفير الأميركي في بيروت داخلياً وخارجياً، في سلسلة اتصالات حول الوضع اللبناني، من دون تعرّضه لأي انتقاد من نوع اتهام واشنطن بالتدخّل في الشؤون الداخليّة لبلاد الأرز. لا بل يمكن القول إنها المرّة الأولى منذ بدء العلاقات الدبلوماسيّة بين الولايات المتحدة ولبنان ربما، التي يسقط فيها "الوجه القبيح" لواشنطن في بيروت، حتى كادت تحظى بإجماع ولو مكتوم على تقييم سياستها اللبنانيّة بالإيجابيّة وعلى الاقتناع بأنها باتت صاحبة "الوجه الجميل" وسط مستنقعات الصراعات اللبنانيّة والإقليميّة العاصفة من كلّ جهة. ولو لم يعترف علناً بذلك بعض المعنيّين من السياسيّين اللبنانيّين. فما الذي تغيّر في المواقف؟ أو من الذي تغيّر؟
بداية، معروف تاريخياً في لبنان أن واشنطن – إدارة وسياسة - لم تكن يوماً موضع ترحيب كبير في بيروت، على عكس الانفتاح الدائم والانجذاب التاريخي من جهة اللبنانيّين حيال الشعب الأميركي كنموذج قيم وحريات ومبادئ إنسانيّة. ذلك أن حساسيّة ثابتة أو دوريّة أو موسميّة، كانت تتحكّم بمشاعر اللبنانيّين تجاه سياسات واشنطن في بيروت. وباختصار يمكن القول إن هذه الحساسيّة مرّت بمرحلتَين أساسيّتَين. من جهة المسلمين اللبنانيّين، كانت واشنطن دائماً جزءاً من الصراع العربي الإسرائيلي، وبالتالي عنصراً أساسياً من عناصر صورة "العدو" في وجدان هؤلاء. وذلك بدءاً من تصويرها "الشيطان الأكبر" الذي يقف خلف إسرائيل "الشيطان الأصغر"، وانتهاءً باتهامها بشنّ حروب مباشرة على لبنان كما حصل إبان التورّط الأميركي العسكري في الوحول اللبنانيّة مباشرة كما في سنة 1958 وسنة 1983، أو بطرق غير مباشرة كما تتّهم دائماً. والأسوأ أن هذا الأمر تلازم مع سلسلة من الرسائل الدمويّة المأساويّة حيال واشنطن في بيروت، من اغتيال سفير لها إلى تفجير سفارتها واستهدافها أكثر من مرّة، إلى التفجير الانتحاري الذي ضرب قوات المارينز في العاصمة اللبنانيّة سنة 1983، مروراً بخطف مواطنين أميركيّين وغربيّين، وصولاً إلى تاريخ من الخطاب التعبوي والتحريضي في السياسة والإعلام.